فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{كلّا إِذا بلغتِ التّراقِي (26)}
قوله: {كلاّ} ردع وزجر، أي: بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة، ثم استأنف، فقال: {إِذا بلغتِ التراقى} أي: بلغت النفس أو الروح التراقي، وهي جمع ترقوة، وهي عظم بين ثغرة النحر والعاتق، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت، ومثله قوله: {فلوْلا إِذا بلغتِ الحلقوم} [الواقعة: 83] وقيل: معنى {كلاّ}: حقا، أي: حقا أن المساق إلى الله إذا بلغت التراقي، والمقصود: تذكيرهم شدّة الحال عند نزول الموت.
قال دريد بن الصمة:
وربّ كريهة دافعت عنها ** وقد بلغت نفوسهم التراقي

{وقِيل منْ راقٍ} أي: قال من حضر صاحبها: من يرقيه ويشتفي برقيته؟.
قال قتادة: التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا، وبه قال أبو قلابة، ومنه قول الشاعر:
هل للفتى من بنات الموت من واقي ** أم هل له من حمام الموت من راقي

وقال أبو الجوزاء: هو من رقى يرقى إذا صعد، والمعنى: من يرقى بروحه إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقيل: إنه يقول ذلك ملك الموت، وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها {وظنّ أنّهُ الفراق} أي: وأيقن الذي بلغت روحه التراقي أنه الفراق من الدنيا ومن الأهل والمال والولد.
{والتفت الساق بالساق} أي: التفت ساقه بساقه عند نزول الموت به.
وقال جمهور المفسرين: المعنى تتابعت عليه الشدائد.
وقال الحسن: هما ساقاه إذا التفتا في الكفن.
وقال زيد بن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت.
وقيل: ماتت رجلاه ويبست ساقاه ولم تحملاه، وقد كان جوّالا عليهما.
وقال الضحاك: اجتمع عليه أمران شديدان: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه.
وبه قال ابن زيد.
والعرب لا تذكر الساق إلاّ في الشدائد الكبار والمحن العظام، ومنه قولهم: قامت الحرب على ساق.
وقيل: الساق الأوّل تعذيب روحه عند خروج نفسه، والساق الآخر شدّة البعث وما بعده.
{إلى ربّك يوْمئِذٍ المساق} أي: إلى خالقك يوم القيامة المرجع، وذلك جمع العباد إلى الله يساقون إليه.
{فلا صدّق ولا صلى} أي: لم يصدّق بالرسالة ولا بالقرآن، ولا صلى لربه، والضمير يرجع إلى الإنسان المذكور في أوّل هذه السورة.
قال قتادة: فلا صدّق بكتاب الله ولا صلى لله.
وقيل: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه.
قال الكسائي: لا بمعنى لم، وكذا قال الأخفش: والعرب تقول: لا ذهب، أي: لم يذهب، وهذا مستفيض في كلام العرب، ومنه:
إن تغفر اللّهم تغفر جما ** وأيّ عبد لك لا ألما

{ولكن كذّب وتولى} أي: كذّب بالرسول وبما جاء به، وتولى عن الطاعة والإيمان.
{ثُمّ ذهب إلى أهْلِهِ يتمطى} أي: يتبختر ويختال في مشيته افتخارا بذلك.
وقيل: هو مأخوذ من المطي، وهو الظهر، والمعنى: يلوي مطاه.
وقيل: أصله يتمطط، وهو التمدّد والتثاقل، أي: يتثاقل ويتكاسل عن الداعي إلى الحق {أولى لك فأولى ثُمّ أولى لك فأولى} أي: وليك الويل، وأصله: أولاك الله ما تكرهه، واللام مزيدة، كما في {ردِف لكُم} [النمل: 72].
وهذا تهديد شديد، والتكرير للتأكيد، أي: يتكرر عليك ذلك مرة بعد مرة.
قال الواحدي: قال المفسرون: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أبي جهل، ثم قال: {أولى لك فأولى} فقال أبو جهل: بأيّ شيء تهدّدني، لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، وإني لأعزّ أهل هذا الوادي، فنزلت هذه الآية.
وقيل معناه: الويل لك، ومنه قول الخنساء:
هممت بنفسي بعض الهمو ** م فأولى لنفسي أولى لها

وعلى القول بأنه الويل.
قيل: هو من المقلوب كأنه قيل: أويل لك، ثم أخر الحرف المعتل.
قيل: ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات، والويل لك حيا، والويل لك ميتا، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار.
وقيل المعنى: إن الذمّ لك أولى لك من تركه.
وقيل المعنى: أنت أولى وأجدر بهذا العذاب، قاله ثعلب.
وقال الأصمعي: أولى في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك.
قال المبرّد: كأنه يقول: قد وليت الهلاك وقد دانيته، وأصله من الولي، وهو القرب، وأنشد الفراء:
فأولى أن يكون لك الولاء

أي: قارب أن يكون لك، وأنشد أيضا:
أولى لمن هاجت له أن يكمدا

{أيحسب الإنسان أن يُتْرك سُدى} أي: هملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يحاسب ولا يعاقب.
وقال السدي: معناه المهمل، ومنه إبل سدى، أي: ترعى بلا راع.
وقيل المعنى: أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يبعث، وجملة: {ألمْ يكُ نُطْفة مّن مّنِىّ يمنى} مستأنفة: أي: ألم يك ذلك الإنسان قطرة من منيّ يراق في الرحم، وسمي المنيّ منيا لإراقته، والنطفة: الماء القليل، يقال نطف الماء إذا قطر.
قرأ الجمهور: {ألم يك} بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الإنسان.
وقرأ الحسن بالفوقية على الالتفات إليه توبيخا له.
وقرأ الجمهور أيضا: {تمنى} بالفوقية على أن الضمير للنطفة.
وقرأ حفص، وابن محيصن، ومجاهد، ويعقوب بالتحتية على أن الضمير للمنى، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو، واختارها أبو حاتم {ثُمّ كان علقة} أي: كان بعد النطفة علقة، أي: دما {فخلق} أي: فقدّر بأن جعلها مضغة مخلقة {فسوى}، أي: فعدّله وكمل نشأته، ونفخ فيه الروح.
{فجعل مِنْهُ} أي: حصل من الإنسان.
وقيل: من المنيّ {الزوجين} أي: الصنفين من نوع الإنسان.
ثم بين ذلك فقال: {الذكر والأنثى} أي: الرجل والمرأة.
{أليْس ذلِك} أي: ليس ذلك الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه {بِقادِرٍ على أن يُحْىِ الموتى} أي: يعيد الأجسام بالبعث كما كانت عليه في الدنيا، فإن الإعادة أهون من الابتداء، وأيسر مؤنة منه.
قرأ الجمهور: {بقادر} وقرأ زيد بن عليّ: (يقدر) فعلا مضارعا، وقرأ الجمهور: {يحيي} بنصبه بأن.
وقرأ طلحة بن سليمان، والفياض بن غزوان بسكونها تخفيفا، أو على إجراء الوصل مجرى الوقف، كما مرّ في مواضع.
وقد أخرج ابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وقِيل منْ راقٍ} قال: تنتزع نفسه حتى إذا كانت في تراقيه.
قيل: من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب.
{والتفت الساق بالساق} قال: التفت عليه الدنيا والآخرة، وملائكة العذاب أيهم يرقى به.
وأخرج عبد بن حميد عنه: {وقِيل منْ راقٍ} قل: من راق يرقى.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضا: {والتفت الساق بالساق} يقول: آخر يوم من أيام الدنيا وأوّل يوم من أيام الآخرة، فتلقى الشدّة بالشدّة إلاّ من رحم الله.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا {يتمطى} قال: يختال.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قوله: {أولى لك فأولى} أشيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل من قبل نفسه، أم أمره الله به؟ قال: بل قاله من قبل نفسه، ثم أنزله الله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {أن يُتْرك سُدى} قال: هملا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن الأنباري عن صالح أبي الخليل قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية {أليْس ذلِك بقادر على أن يُحْيِى الموتى} قال: «سبحانك اللّهم، وبلى» وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: لما نزلت هذه الآية: {أليْس ذلِك بقادر على أن يُحْيِى الموتى} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحانك ربي، وبلى» وأخرج ابن النجار في تاريخه عن أبي أمامة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند قراءته لهذه الآية: «بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين» وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم: {والتين والزيتون} [التين: 1]، فانتهى إلى آخرها: {أليْس الله بِأحْكمِ الحاكمين} [التين: 8] فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.
ومن قرأ {لا أُقْسِمُ بِيوْمِ القيامة} [القيامة: 1]، فانتهى إلى قوله: {أليْس ذلِك بقادر على أن يُحْيِى الموتى} فليقل: بلى.
ومن قرأ: {والمرسلات عُرْفا} [المرسلات: 1] فبلغ: {فبِأيّ حديث بعْدهُ يُؤْمِنُون} [الأعراف: 85] فليقل: آمنا بالله»
وفي إسناده رجل مجهول.
وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأت {لا أُقْسِمُ بِيوْمِ القيامة} فبلغت: {أليْس ذلِك بقادر على أن يُحْيِى الموتى} فقل: بلى». اهـ.

.قال القاسمي:

سورة القيامة:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}
قال القاشانيّ: جمع بين القيامة والنفس اللوامة، في القسم بهما، تعظيماً لشأنهما، وتناسباً بينهما؛ إذ النفس اللوامة هي المصدقة بها، المقرة بوقوعها المهيئة لأسبابها، لأنها تلوم نفسها أبداً في التقصير، والتقاعد عن الخيرات، وإن أحسنت، لحرصها على الزيادة في الخير، وأعمال البر، تيقناً بالجزاء، فكيف بها إن أخطأت وفرطت وبدرت منها بادرة غفلة ونسياناً.
ومر الكلام على {لَا أُقْسِمُ} في مواقعه قبل هذا فتذكر. وحذف جواب القسم لدلالة قوله: {أَيحسب الإنسان أَلَّن نَجْمَعَ عظامه} عليه، وهو لتبعثُنَّ. قال القاشانيّ: المراد بالقيامة، هاهنا الصغرى، لهذه الدلالة بعينها.
{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} أي: بلى! نجمع عظامه، قادرين تسوية بنانه التي هي أطراف خلقته وتمامها، على صغرها ولطافتها، وضم بعضها إلى بعض، فكيف بكبار العظام؟
{بَلْ يريد الإنسان ليفجر أَمَامَهُ} أي: ليدوم على الفجور، فيما يستقبله من الزمان، ولا يثنيه عنه شيء، ولا يتوب منه أبداً.
قال الشهاب:
{أَمَامَهُ} ظرف مكان، استعير هنا للزمان المستقبل، فيفيد الاستمرار والضمير للإنسان، أو ليوم القيامة. وقيل الدوام ولاستمرار؛ لأنه خبر عن حال الفاجر، بأنه يريد ليفجر في المستقبل، على أن إرادته وحسبانه هما عين الفجور. وفي إعادة المظهر ما لا يخفى من التهديد ونعي قبيح ما ارتكبه، وأن الإنسانية تأباه. وقيل: حمله على الاستمرار ليصح الإضراب، ويصير المعنى: بل يريد الإنسان أن يستمر على فجوره ولا يتوب، فلذا أنكر البعث.
وقال القاشانيّ: أي: ليدوم على الفجور بالميل إلى اللذات البدنية، والشهوات البهيمية، غارزاً رأسه فيها، فيما بين يديه من الزمان الحاضر والمستقبل، فيغفل عن القيامة لقصور نظره عنها، وكونه مقصوراً على اللذات العاجلة، وفرط تهالكه عليها، واحتجابه بها عن الآجلة، سائلاً عنها، متعنتاً مستبعداً إياها، كما قال سبحانه: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} أي: متى يكون؟ استبعاداً وهزؤاً. والجملة استئناف أو حال أو تفسير لقوله: يفجر، أو بدل منه والاستئناف بيانيّ، كأنه قيل: لِمَ يريد الدوام على الفجور؟ قيل: لأنه أنكر البعث واستهزأ به {فَإِذَا برق الْبَصَرُ} أي: تحير ودهش، أي: لما أتى من أمر الله. قال مجاهد: أي: عند الموت. {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} أي: ذهب ضوؤه {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي: جمع بينهما في ذهاب الضوء، فلا ضوء لواحد منهما. وقيل: إنهما يجتمعان ثم يكوران، كما قال جل ثناؤه: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1]، قال ابن زيد: جمعا فرمي بهما في الأرض.
{يَقول الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} أي: الفرار. أي: يطلب مهرباً ومحيصاً لدهشته، أو يقول قول الآيس لعلمه بأنه لا قرار حينئذ.
{كُلاَ} ردع له عن طلب المفر، {لَا وزر} أي: لا ملجأ.
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} أي: مستقر العباد، من نار أو جنة. أي: مفوض إليه لا إلى غيره مستقرهم، أو استقرار أمرهم، والحكم فيهم {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قدّم} أي من عمله الذي يوجب نجاته وثوابه، من الخيرات والصالحات، {وَأَخْرِ} أي: منه ففرط وقصر فيه ولم يعمله.
قال الشهاب:
{مَا قدّم} كناية عما عمل، وما {أخّر} ما تركه ولم يعمله. وهو مجاز مشهور فيما ذكر. أو ما قدمه، ما عمله، وما أخره، عمل من اقتدى به بعده عملاً له، كأنه وقع منه.
{بَلِ الإنسان على نفسه بصِيرة} قال القاشانيّ: أي: حجة بينة، يشهد بعلمه، لبقاء هيئات أعماله المكتوبة عليه في نفسه، ورسوخها في ذاته، وصيرورة صفاته صور أعضائه، فلا حاجة إلى أن ينبأ من خارج.
قال الشهاب:
{بصِيرة} مجاز عن الحجة الظاهرة. أو {بصِيرة} بمعنى بينة، وهي صفة لحجة مقدرة. وجعل الحجة بصِيرة لأن صاحبها يبصر بها، فالإسناد مجازي. أو هي بمعنى دالة مجازاً. أو هو استعارة مكنية وتخييلية. و{الإنسان} مبتدأ، و{بصِيرة} خبره، و{عَلَى} متعلق به. والتأنيث للمبالغة، أو لكونه صفة حجة. {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} أي: ولو ألقى أعذاره مجادلاً عن نفسه بكل معذرة. وفيه إشارة إلى أن ما عليه المشركون من الشرك وعبادة الأوثان، وإنكار البعث، منكر باطل، تنكره قلوبهم، وأنهم في دفاعهم يجادلون بالباطل. ولا غرو أن ينكر القلب ما تدفعه الفطرة السليمة، والدين دين الفطرة.
قال الشهاب: شبه المجيء بالعذر بإلقاء الدلو في البئر للاستقاء به، فيكون فيه تشبيه لذلك بالماء المرويّ للعطش.
وقوله تعالى: {لَا تحرك به لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ به} أي: لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي، لتأخذه على عجلة، مخافة أن يتفلت منك.
{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أي: في صدرك، وإثبات حفظه في قلبك، بحيث لا يذهب عليك منه شيء.
{وقرآنه} أي: أن تقرأه بعدُ فلا تنسى {فَإِذَا قرآناهُ} أي: أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السلام، {فَاتَّبِعْ قرآنه} أي: كن مقفياً له ولا تراسله.
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي: بيان ما فيه، إذا أشكل عليك شيء من معانيه، أو أن نُبَيِّنَهُ على لسانك.
تنبيهات:
الأول: ما ذكرناه في تأويل الآية هو المأثور في (الصحيحين) وغيرهما، ولفظ البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه إذا أنزل عليه»، فقيل له: {لَا تحرك به لِسَانَكَ} يخشى أن يتفلت منه {انا علينا جمعه} أن نجمعه في صدرك {وقرآنه} أي: تقرأه {فَإِذَا قرآناهُ} يقول أنزل عليه {فَإِذَا قرآناهُ فَاتَّبِعْ قرآنه} أن نبيّنه على لسانك. زاد في رواية: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل، قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه.
قال ابن زيد: أي: لا تكلم بالذي أوحينا إليك حتى يقضى إليك وحيُه، فإذا قضينا إليك وحيه، فتكلم به. يعني: أن هذه الآية نظير قوله تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالقرآن مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114].
قال ابن كثير: وهكذا قال الشعبي والحسن البصري وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد، أن هذه الآية نزلت في ذلك، وأنها تعليم من الله عز وجل لرسوله كيفية تلقيه الوحي.
الثاني: ذكروا في مناسبة وقوع الآية معترضة في أحوال القيامة- على تأويلهم المتقدم- وجوهاً:
منها: تأكيد التوبيخ على ما جبل عليه الإنسان- والمرء مفتون بحب العاجل- حتى جعل مخلوقاً من عَجَل، ومن محبة العاجل، وإيثاره على الآجل، تقديم الدنيا الحاضرة على الآخرة، الذي هو منشأ الكفر والعناد، المؤدي إلى إنكار الحشر والمعاد؛ فالنهي عن العجلة في هذا يقتضي النهي فيما عداه، على آكد وجه. وهذه مناسبة تامة بين ما اعترض فيه وبينه، قاله الشهاب.
ومنها: أن عادة القرآن، إذا ذكر الكتاب المشتمل على عمل العبد، حيث يعرض يوم القيامة، أردفه بذكر الكتاب المشتمل على الأحكام الدينية في الدنيا التي تنشأ عنها المحاسبة عملاً وتركاً، كما قال في الكهف:
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف: 49]، إلى أن قال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا للنَّاسِ فِي هَذَا القرآن} [الإسراء: 89] الآية. وقال في طه:
{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} [طه: 102]، إلى أن قال: {فَتعالى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالقرآن مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114].
ومنها: أن أول السورة لما نزل إلى قوله: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} صادف أنه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بادر إلى تحفظ الذي نزل، وحرَّك به لسانه من عجلته خشية من تفلته، فنزلت: {لَا تحرك به لِسَانَكَ} إلى قوله: {ثم انا علينا بيانه} ثم عاد الكلام إلى تكملة ما ابتدأ به.
قال الفخر الرازي: ونحوه ما لو ألقى المدرِّس على الطالب مثلاً مسألة، فتشاغل الطالب بشيء عرض له فقال له: ألق إليّ بالك، وتفهم ما أقول، ثم كمَّل المسالة، فمن لا يعرف السبب يقول: ليس هذا الكلام مناسب للمسالة، بخلاف من عرف ذلك. قاله الحافظ ابن حجر في (فتح الباري).
الثالث: استدلوا على التأويل السابق بقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، كما هو مذهب الجمهور لما تقتضيه {ثُمَّ} من التراخي. وأول من استدل لذلك بهذه الآية القاضي أبو بكر بن الطيب، وتبعوه. وهذا لا يتم إلا على تأويل البيان بتبيين المعنى، وإلا فإذا حمل على أن المراد استمرار حفظه له، وظهوره على لسان، فلا!
قال الآمدي: يجوز أن يراد البيان التفصيلي، ولا يلزم منه جواز تأخير البيان الإجمالي، فلا يتم الاستدلال. وتعقب باحتمال إرادة المعنيين: الإظهار والتفصيل وغير ذلك، لأن قوله: {بَيَانَهُ} جنس مضاف، فيعم جميع أصنافه من إظهاره وتبيين أحكامه، وما يتعلق بها من تخصيص وتقييد ونسخ وغير ذلك. قاله الحافظ في(الفتح).
وجوز القفال أن تكون {ثُمَّ} للترتيب في الإخبار. أي: إنا نخبرك بأن علينا بيانه، فلا تدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب. وضعفه الرازي بأنه ترك للظاهر من غير دليل.
الرابع: ما قدمناه من معنى قوله تعالى: {لَا تحرك به لِسَانَكَ} إلخ، وما استفيد منه، وما قيل في مناسبته لما قبله، كله إذا جرى على المأثور فيها. وحاول القفال معنى فقال كما نقله عنه الرازي: إن قوله تعالى: {لَا تحرك به لِسَانَكَ} ليس خطاباً مع الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو خطاب مع الإنسان المذكور في قوله: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قدّم وَأخّر} [القيامة: 13]، فكان ذلك حال ما ينبأ بقبائح أفعاله، وذلك بأن يعرض عليه كتابه فيقال له: {اقرأ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14]. فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف، وسرعة القراءة، فيقال له: {لَا تحرك به لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ به} فإنه يجب علينا بحكم الوعد، أو بحكم الحكمة، أن نجمع أعمالك عليك، وأن نقرأها عليك، فإذا قرآناه عليك فاتبع قرآنه، بالإقرار بأنك فعلت تلك الأفعال، ثم إن علينا بيان أمره، وشرح مراتب عقوبته.
وحاصل الأمر من تفسير هذه الآية: أن المراد منه، أنه تعالى يقرأ على الكافر جميع أعماله، على سبيل التفصيل. وفيه أشد الوعيد في الدنيا، وأشد التهويل في الآخرة.
ثم قال القفال: فهذا وجه حسن، ليس في العقل ما يدفعه، وإن كانت الآثار غير واردة به. انتهى.
ونقل الشهاب أن بعضهم ارتضى هذا الوجه، وقدمه على الوجه السابق.
وزعم الحافظ ابن حجر أن الحامل على هذا الوجه الأخير هو عسر بيان المناسبة بين هذه الآية وما قبلها من أحوال القيامة أي: ولما بيّن الأئمة المناسبة التي أثرناها عنهم، لم يبق وجه للذهاب إلى هذا الوجه الأخير، مع أن هذا الوجه- هو فيما يظهر- فيه غاية القوة والارتباط به قبله وما بعده، مما يؤثر على المأثور، الذي قد يكون مدركه الاجتهاد، والوقوف مع ظاهر ألفاظ الآية. ومما يؤيد ما أورد عليه أن ابن عباس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال؛ لأن الظاهر أن ذلك كان في مبدأ البعث النبوي، ولم يكن ابن عباس وُلد حينئذ. ولا مانع- كما قال ابن حجر- أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بعد، فيراه ابن عباس، أو يخبر به، فيكون من مراسيل الصحابة، والله أعلم.
{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} أي: الدنيا العاجلة، بإيثار شهواتها {وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} أي: بالإعراض عن الأعمال التي تورث منازلها، أو تنسون الآخرة ووعيدها، وهول حسابها وجزائها.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} أي: حسنة جميلة من النعيم.
{إِلَى رَبها نَاظِرَةٌ} أي: مشاهدة إياه، ترى جمال ذاته العلية، ونور وجهه الكريم، كما وردت بذلك الأخبار والآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} أي: كالحة، لجهامة هيئاتها، وهول ما تراه هناك من الأهوال، وأنواع العذاب والخسران.
{تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بها فَاقِرَةٌ} أي: داهية تفصِم فقارَ الظهر، لشدتها وسوء حالها ووبالها. وشتان ما بين المرتبتين! ويظهر أن في عود الضمير من {بها} إلى الوجوه- مراداً بها الذوات- شبه استخدام، ولم أر من نبه عليه.
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ} أي: بلغت النفس أعالي الصدر. وإضمارها- وإن لم يجر لها ذكر- لدلالة السياق عليها، كقول حاتم:
أماويّ مَا يُغْني الثَّراءُ عَنِ الفَتَى ** إذا حَشرَجَتْ يَوْمَاً وَضاقَ بها الصدَّرُ

قال الرازي: يكنى ببلوغ النفس التراقي، عن القرب من الموت، ومنه قول دريد ابن الصمة:
ورب عظيمة دافعتُ عنها وقد ** بلَغَتْ نفوسُهُمُ التَّراقِي

ونظيره قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة: 83] {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} قال ابن جرير: أي: وقال أهله: من ذا يَرقيه ليشفيه مما قد نزل به، وطلبوا له الأطباء والمداويين، فلم يغنوا عنه من أمر الله الذي قد نزل به شيئاً. أي: فالاستفهام بمعنى الطلب لراقٍ أو طبيب. وجوز كونه بمعنى الإنكار، يأساً من أن يقدر أحد على نفعه برقية أو عوذة.
لطيفة:
قال الواحدي: إن إظهار النون عند حروف الفم لحن، فلا يجوز إظهار نون {مَنْ} في قوله: {مَنْ رَاقٍ} وروى حفص بن عاصم إظهار النون في قوله: {مَنْ رَاقٍ} و{بَلْ رَانَ} قال أبو علي الفارسي: ولا أعرف وجه ذلك. قال الواحدي: والوجه أن يقال: قصد الوقف على {مَنْ} و{بَلَ} فأظهرهما، ثم ابتدأ بما بعدهما. وهذا غير مرضي من القراءة. انتهى.
نقله الرازي.
{وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} أي: وأيقن الذي قد نزل ذلك به أنه فراق الدنيا والأهل والمال.
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} أي: الْتوَت ساقه بساقه، فلا يقدر على تحريكها. وقيل: هما ساقاه، إذا التفتا في الكفن. وقيل: الساق عبارة عن الشدة، كما مر في سورة القلم. والتعريف للعهد أيضاً.
قال الشهاب: فإن قلت: ما مرّ هو الكشف عن الساق، ووجه ظاهر، لأن المصاب يكشف عن ساقه، فكيف ينزل هذا عليه؟
قلت: الأمر كما ذكرت، لكنه شاع فيه، ففهم ذلك من السياق وحده، حتى صار عبارة عن كل أمر فظيع، كما أشار إليه الراغب، انتهى.
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} أي: سوقه إلى حكمه تعالى.
{فَلَا صَدَّقَ} أي: بالدِّين والكتاب. أو صدق ماله، أي: ما زكَّاه {وَلَا صَلَّى} أي: الصلاة التي هي رأس العبادات، التي سها عنها.
{وَلَكِن كَذَّبَ} أي: بدل التصديق {وَتَوَلَّى} أي: بدل الصلاة التي بها كمال التوجه إلى الله تعالى: {ثُمَّ} أي: مع هذه التقصيرات في جنب الله تعالى:
{ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} أي: يتبختر في مشيته. وأصله يتمطط، أي: يتمدد، لأن المتبختر يمد خطاه.
تنبيهات:
الأول: الضمير في الآيات للإنسان المتقدم في قوله تعالى: {أَيحسب الإنسان}
الثاني: قال الرازي: إنه تعالى شرح كيفية عمله فيما يتعلق بأصول الدين وفروعه، وفيما يتعلق بدنياه. أما ما يتعلق بأصول الدين فهو أنه ما صدق بالدين، ولكن كذب به. وأما ما يتعلق بفروع الدين فهو أنه ما صلى، ولكنه تولى، وأعرض. وأما ما يتعلق بدنياه، فهو أنه ذهب على أهله يتمطى ويختال في مشيته.
الثالث: دلت الآية على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة، كما يستحقهما بترك الإيمان.
الرابع: قال الرازي: قال أهل العربية: لا هاهنا في موضع لم، فقوله: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} أي: لم يصدق ولم يصلّ، وهو كقوله: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11]، أي: لم يقتحم.
وكذلك ما روي: «أرأيت من لا أكل ولا شرب ولا استهل». قال الكسائي: لم أر العرب قالت في مثل هذا كلمة وحدها، حتى تتبعها بأخرى، إما مصرحاً بها، أو مقدراً. أما المصرح، فلا يقولون لا عبد الله خارج، حتى يقولوا: ولا فلان، ولا يقولون: مررت برجل لا يحسن، حتى يقولوا: ولا يجمل. وأما المقدر فهو كقوله: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11]، ثم اعترض الكلام فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ}، وكان التقدير: لا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً، فاكتفى به مرة واحدة. ومنهم من قال: التقدير في قوله: {فَلَا اقْتَحَمَ} أي: أفلا اقتحم، وهلا اقتحم. انتهى.
{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} أي: ويل لك مرة بعد مرة. دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه ولاءً متكرراً متضاعفاً.
وقيل: المعنى بُعْداً لك، فبعداً في أمر دنياك، وبعداً لك فبعداً في أمراً أخراك، حكاه الرازي عن القاضي، ثم قال: قال القفال: هذا يحتمل وجوهاً.
أحدها: أنه وعيد مبتدأ من الله للكافر.
والثاني: أنه شيء قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعدوه- يعني أبا جهل- فاستنكره عدو الله لعزته عند نفسه، فأنزل الله تعالى مثل ذلك.
والثالث: أن يكون ذلك أمراً من الله لنبيه بأن يقولها لعدو الله، فيكون المعنى: ثم ذهب إلى أهله يتمطى، فقل له يا محمد: أولى لك فأولى، أي: احذر، فقد قرب منك مالا قِبل لك به من المكروه. انتهى. والأظهر هو الأول.
لطيفة:
تفسير {أَوْلَى لَكَ} بـ ويل لك، قال الشهاب: هو محصل معناه المراد منه، فإنه مثله، فيرد للدعاء عليه، أو للتهديد والوعيد.
وعن الأصمعي أنها تكون للتحسُّر على أمر فات.
هذا هو المعنى المراد لها. وأما الكلام في لفظها فقيل: هو فعل ماض دعائي من الوَلي، واللام مزيدة. أي: أولاك الله ما تكرهه. أو غير مزيدة، أي: أدنى الهلاك لك. وقريب منه قول الأصمعي: إن معناه قاربه ما يهلكه أن ينزل به. واستحسنه ثعلب.
وقيل: إنه اسم وزنه أفعل، من الويل، فقلب. وقيل فَعْلَى، ولذا لم ينون. ومعناه ما ذكر، وألفه للإلحاق لا للتأنيث. وعلى الاسمية هو مبتدأ، و{لَكَ} الخبر. وقيل: إنه اسم فعل مبنيّ، ومعناه وَلِيَك شر بعد شر.
ونقل الزمخشري عن أبي عليّ أنه عَلَمٌ لمعنى الويل، وهو غير منصرف للعلمية ووزن الفعل. وقيل عليه: إن الويل غير متصرف، ومثل يوم أيوم، غير منقاس، ولا يفرد عن الموصوف. وادعاء القلب من غير دليل لا يسمع، وعلم الجنس خارج عن القياس، فما ذكر بعيد من وجوه عدة. وقيل: الأحسن أنه أفعل تفضيل خبر لمبتدأ يقدر كما يليق بمقامه، فالتقدير هنا: النار أولى لك، يعني: أنت أحق بها، وأهل لها. انتهى.
{أَيحسب الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} أي: همَلاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يجازى، مع أنه الإنسان الذي أودع العقل وعلِّم البيان، وغرز في طبعه أن يعيش مجتمعاً، وخص من المواهب ما فضل على غيره. فمن تمام الإحسان إليه إنقاذه من حيرته، وإعلامه بسبيل هدايته، وأن لا يترك خابطاً في متائه جهالته، وقد كان ذلك بفضل الله ونعمته، كما أشار لذلك بقوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى} أي: يصبّ في الرحم {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً} أي: دماً {فَخَلَقَ} أي: قدّر أعضاءه {فَسَوَّى} أي: سوى تلك الأعضاء لأعمالها وعدّلها. {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ} أي: الصنفين {الذَّكَرَ وَالْأُنثَى} أي: لبقاء نوعه، يعمر الدنيا إلى الأجل الذي كتبه وقدره.
{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} أي: فيوجدهم بعد مماتهم لعمارة الآخرة.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: «سبحانك فبَلىَ»- رواه أبو داود عن رجل من الصحابة.
ورواه أيضاً عن أبي هريرة بلفظ: «من قرأ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فانتهى إلى {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فليقل: بلى». ورواه الإمام أحمد والترمذي أيضاً.
والله أعلم. اهـ.